الأربعاء، 1 أغسطس 2018

ابتسام.. بعضنا الذي مات


(1)
 
هي رمشة عين واحدة، ومسافة رمش بينك وبين جنة افتتاحها الله للأمهات قبل أن تحمل حواء بجنينها الأول.
من الجنة وإليها. تعبرين من القلب خطوة. ومن الروح خطوات، وتحث الخطى ارواحنا وراء دعسات عمرك، نَفتقدكِ ثم نَراكِ. كأنك معجزة. أنت هناك وأنت هنا تقفين في يوم الحشر. أمٌ  تمسك بيد ابنها المدلل حتى لا يسقط عن الصراط. 
يوم الحشر في حضنها بردا وسلاما. ابتسام هي الحب حين خلق الله المرأة وعلمها الكلمات.
ابتسام حزنها كالبساتين، والصبح يتنفس من بريق عينها. لونها من الياسمين، ومونة البيت فيض يديها. 
ابتسام ساحة الضيعة، والعريشة وباب البيت والماء والهواء والأرض والسماء، ابتسام مقام النبي ساري حين تفوح رائحة البخور من طيات ايشاربها، وتلتقط عباءتها غبار التراب، وتضرب الشمس رأسها بنور الله.
حين جاء خبر موتكِ أدركتُ اني لا أزال طفلا صغيرا. صار صوت بكائي نحيبا يرجوكِ أن تعودي. حين رأيتُ نعشك مسجى إلى سفر لا رجعة منه تمنيت لو أن يدكِ تأخذني معكِ الى كربلاء حيث الدموع تصعد إلى السماء. صوت بكائي يشبه وهن صرختي الأولى حين وضعتني بطنك في هذه الدنيا.

(3)

من يجمعنا بَعدَكِ على مائدة واحدة. من يُنادي بأسمائنا، من ينتظرنا حين نتأخر في سهرة الليل، من يقرأ بفرح دفتر العلامات، من يسألنا بعد اليوم عن تعبِنا عن وجعِنا عن همِنا. من يغسل ثيابنا، من يحمل إلينا كوب الماء وحبة الدواء. من يتفقدنا في الليل ويشد علينا الغطاء. من يقف على عتبة البيت يودعنا بالدعاء، ويستقبلنا حين نعود بالبكاء. أي يد تهز نومنا لنلحق بصلاة الصبح، أي سحور وأي رمضان. بعدك كل الأشهر صيام.
حين عدنا من الدفن وجدنا أشياء كثيرة قد ماتت معكِ، البيت بعدك بلا روح. ماتت الجدران، ماتت مفاتيح الأبواب، كل اللوحات التي علقتها يدكِ على الحيطان كانت تبكي. برادي الغرف حزينة، ومنشر الغسيل ودرج السطح ومصطبة المساءات الجميلة. 
ابتسام. أمي، حتى شتلة الورد التي سقّيتها على شباك المطبخ وجدناها يابسة. حديقة البيت ذابلة، والبيت كله بعدك جثة هامدة، يأكلها الصمت، أجسادنا توابيت خشب مصلوبة على زفت الطريق تنظر عبوركِ بين البيت والدكان. وحدها المِرآة المعلقة في غرفة نومكِ لا تزال تحتفظ بوجهكِ. نَحسُ بأنفاسكِ في كل الزوايا، نراكِ مع فراشات الليل تطرقين بأجنحتك شبابيك نومنا. هذا حفيدك الأول يغفو على أغنية ولدت من بين أصابعك، وهذا جيش من الأحفاد يسأل عن ابتسامتك المسجاة على الجدار. 
بيتنا كان قارورةً عشق، وابتسام كانت عطر الفل والغاردينيا والحبق والنعناع. ابتسام صلاة الصبح قبل الناس، وتسابيح المعوذتين من شر ما خلق، ووسوسة الخناس. بموتكِ شيعتُ جنازة عقلي معكِ، ومشيتُ خلف النعشِ. وسكنتُ قربكِ في المثوى البعيد حيث أعيش هناك أجمل لحظات جنوني.

(4)

 بَعدكِ يا ابتسام، سَكنت بين أضلعنا الأحزان. الأم حين تموت، ينكسر العمر والظُهر والعصر. تضيع الاحلام، يضيع العشاق. قبركِ يجمعُنا صباح العيد، نساقُ إليكِ، يحشرنا بالعناق، نأتي إليكِ لنستعيد بعضنا الذي مات. نُشعلُ شمعة من عمرنا، ونترك الذكريات تنساب فوق الضريح. نمسح غبار اسمك، نفرك وجوهنا بشيء منكِ، نكتب على بلاط الرخام اسطر وصيتك الأخيرة. ثم نترك خلفنا سورة الفاتحة ونُغادر باشتياق. أمي كبرنا، فكيف يا أمي كبرنا وكيف صار لنا أولاد ولكِ أحفاد، ومع ذلك فنحن أمامك صغار صغار.