السبت، 22 أغسطس 2020

حرب منازل وغرف ومواجهات وجهاً لوجه في مارون الراس

تجنبت الميركافا السير على الزفت والطرق التقليدية الزارعية، وشقت لنفسها طرقاً فرعية التفافية في المنحدرات والسفوح خشية السقوط في حقول العبوات الناسفة، لأن أشلاء الدبابة التي تجاوزت الشريط الشائك قرب خلة وردة في عيتا الشعب بعد ساعة من عملية الأسر ضاعت في حرج الصنوبر بعدما تناثرت جراء وقوعها في شرك كبير من العبوات الناسفة.
أرسلت مجموعة الرصد المتقدمة للمقاومة برقية عاجلة، أكدت فيه عبور دبابة واحدة الشريط الحدودي الشائك بالقرب من مقام "محمد الشهيد" في منطقة تابعة عقارياً الى مارون الراس ويسميها الأهالي "الشقة".
لم تتمكن مجموعة الرصد من تحديد وجهة سير الدبابة الأولى بسبب إجراءات التمويه التي قامت بها، وبعد قليل تبعتها دبابة ثانية، وفعلت مثلها، واتضح بعد ذلك لغرفة العمليات في بنت جبيل أن دبابتي الميركافا تجاوزتا بلدة يارون، واتجهتا الى مرتفعات مارون الراس المطلة على مدينة بنت جبيل نفسها وعيناتا، وعيترون.
في داخل البلدة كانت مجموعات المقاومة متأهبة منذ سبعة أيام، ولكن بصمت الى درجة أن الجيش الاسرائيلي ظن أنها خالية من رجال المقاومة، وان عدداً قليل منهم سوف يستسلمون في أول مواجهة.
شعرت الميركافا بالأمان، فسلكت الطريق الرئيسية للبلدة، وتموضعت قبل المفترق المؤدي للاستراحة لجهة يارون، كان من المفترض أن تظل تحت مراقبة المقاومة لاقتيادها الى المصيدة التي أعدت لها قبل أيام.
في يوم الأربعاء 19 تموز الذي سبق وصول الميركافا الى مارون، والتقدم البطيء للاستيلاء على التلال المطلة على بنت جبيل، خاضت مجموعة للمقاومة معركة مصيرية مع 18 جندياً اسرائيلياً من القوة الخاصة "مغلان" وهي وحدة نخبة في جيش العدو تسللوا ليلاً تحت حماية 4 دبابات الى منطقة الحافور البعيدة عن البيوت الساكنة بالهدوء، وتموضعوا في جبل الباط (غابة مارون). بدأت الاشتباكات حامية الوطيس قبل حلول الظهيرة وانتهت بعد ثلاث ساعات بتدخل الطيران المروحي والحربي لسحب قوة "مغلان" في سباق مع رجال المقاومة خشية العثور على جثة قتيلين اثنين على الأقل من جنود القوة الاسرائيلية، تركا في أرض المعركة، ولسحب نحو تسعة جرحى على الأقل خشية وقوع أحدهم في الأسر. كان ذلك واضحاً من كثافة النار المتبادلة الى حد وجدت المروحيات صعوبة بالغة في الهبوط لسحب الجنود.
لم يتعظ الاسرائيلون من معركة الحافور، وجبل الباط، فأرسلوا الميركافا الى مرتفعات مارون الراس لعزل مجموعات المقاومة في الأطراف داخل الغابة والحافور والبستان والخلة وجبل الباط التي ظلت قادرة على العمل بالرغم من الغارات المتواصلة للطيران الحربي عليها.
كان من المفترض مراقبة الميركافا بحذر الى حيث وصلت واستقرت. لكن موسى حسين فارس حامل قاذف الـB7  اتعبه الانتظار وطول مراقبة هذا الهدف السهل، فأطلق القذيفة التي أصابت الميركافا بخدش في وسطها.
بدت قذيفة موسى كسلاح الأطفال أمام العملاق الحديدي، الذي سرعان ما رد بطلقتين صاروخيتين على مصدر النيران، قال موسى للشباب ان طلقته هي التي اشعلت المواجهات في مارون الراس، وفي تلك اللحظة عندما ردت الميركافا عليه انبطح أرضاً في الجل تحت "المحيط" قرب التينة لأنه لم يعد قادراً على الرؤية بسبب عاصفة من الغبار والتراب والحجارة المتطايرة، لكنه استطاع أن يزحف على بطنه مع زميله الحاج أبو علي الذي شطرت إحدى الشظايا الحادة جهاز التخابر اللاسلكي في يديه الى نصفين "كانت النجاة من الله".
حكى موسى قصة الرمية بحماسة، ووصف الدبابة بإحساس العاشق للشهادة، وتحسر لعدم حمله لتلك القاذفات التي سمع زميله الملقب "جواد" يقول عنها بأنها تحطم الميركافا كما يحطم الأولاد البسكوت بأيديهم.
كان "جواد" قد وصل الى مارون الراس قبل ثمانية أشهر حاملاً معه قاذفة مضادة للمدرعات أخفاها في مكان ما، بعد تكليفه من قيادة المقاومة بإدارة مجموعاتها، ووضع خطط دفاعية عن البلدة.
اتصل الحاج أبو علي بـ"جواد" المرابط مع أحد المجاهدين في مبنى آخر، وحدد له مكان تموضع الميركافا.
قبل ثلاثة أيام كان "جواد" ينام بالقرب من سلاحه الذي سيقهر الميركافا، يغطيه ببطانية سوداء ويسهب في سهرات ما قبل التقدم البري الاسرائيلي في تعداد محاسنه وفعاليته، وكان يختم كلامه: "انتظروا سترون بأعينكم كيف ستذوب الميركافا".
حمل المجاهد، و"جواد" القاذفة وانطلقا مشياً تحت شجر التين والزيتون للالتفاف حول الميركافا واستهدافها في وسطها، ومعالجة خدش قذيفة الـB7 بالاستئصال.
كان صوت المجاهد على الجهاز اللاسلكي المحمول واضحاً وهو يقول: "انتم لا تدركون ماذا ينتظركم، تريدون احتلال مارون الراس".
يقول الحاج أبو علي أحد الذين خاضوا المواجهات انه سمع المجاهد يصرخ "الله أكبر...يا أبا عبد الله" بعد ذلك شاهدنا الدبابة الأولى تشتعل، بعد قليل "طلع على الموجة "جواد"، وأعلن الخبر الذي تناقلته وسائل الاعلام كافة، تم تدمير دبابة ميركافا على مدخل بلدة مارون الراس، والدبابة الثانية أصيبت أيضاً".
ويبدو أن قيادة الجيش الاسرائيلي التي تجنبت دخول الأنفاق في جبل الباط لم تدرك ايضاً انها اُستدرجت الى وسط مارون، وحتى بعد تدمير الدبابتين اعتقدت أن مارون لن تقاوم، فدفعت بالمزيد من الدبابات والمشاة التابعين لوحدة ايغوز للسيطرة على شريط من المرتفعات الاستراتيجية للتقدم منه نحو مدينة بنت جبيل.
تلقى "جواد" اتصالاً أبلغه بأن الملرصد المتقدم شخّص قوة اسرائيلية من عدة عناصر تتمركز في أحد بيوت البلدة، المطلوب محاصرتها واعتقال عدد من الجنود.
قام "جواد" بتوزيع الافراد، وحدد المسؤوليات، ولم ينس تكليف أحد الشباب بإحضار سيارة مدنية كافية لحشر خمسة جنود بداخلها على الأقل، كانت مهمة استشهادية.
ويروي الحاج أبو علي تفاصيل مثيرة جداً عن عملية الاقتحام، فخلال دقائق معدودة شلت نيران المقاومة قدرة القوات الاسرائيلية على الحركة، كان صوت "جواد" على الجهاز اللاسلكي المحمول يعد بأنه سيرسل هدية ثمينة الى سماحة السيد.
كان صراخ الجنود هستيرياً عندما دخلت صواريخ الـB7  من الشبابيك والأبواب الى الغُرف، وارتفاع صراخهم في تلك اللحظة التي قفز فيها "جواد" الى المصطبة ورمى قنبلة يدوية قبل ان يفتح نيران رشاشه وهو يقتحم المدخل، وفي تلك اللحظة كان صديق جواد ورفيقه في المهمات يقوم بإشغال القوة الاسرائيلية المحاصرة من خلف المنزل، رمى بدوره قنبلة يدوية في الشباك إلى احدى الغرف مع صليات من رشاشه، وأثناء انتقاله إلى شباك آخر لرمى القنبلة استهدفه قناص اسرائيلي من احد البيوت، فسقط شهيداً، وبعد لحظات استشهد "جواد" برصاص أحد الجنود الاسرائيليين المتخفي خوفا على "التتخيتة" فوق الحمام.
مجموعات المقاومة أدركت ان عملية الأسر لن تكون ممكنة بعد الآن، خصوصاً بعدما أعطت قيادة الجيش الاسرائيلي أوامر صارمة لجنودها بالتراجع والانسحاب إلى منازل أكثر أمناً، وخلال عملية التراجع لاحقت المقاومة فلول الهاربين، الذين تحصنوا في أماكن يمكن الدفاع عنها بانتظار وصول تعزيزات اسرائيلية اضافية لفك الحصار عن القوة، عندها دارت اشتباكات عنيفة من بيت الى بيت شاركت فيها الدبابات والمروحيات والطيران الحربي قبل أن تتوقف عند حلول الظلام بتموضع المقاومة وعناصر الجيش الاسرائيلي في بيوت متقابلة.
خلال معركة "البيت"، شاهد الرصد في المقاومة قوة اسرائيلية من نحو سبعين جنديا من المشاة في الجيش الاسرائيلي تهرول ركضاً يسيطر عليها الخوف والتعب والقلق وتريد الوصول الى ساحة البلدة لمساندة القوة المحاصرة، بدت القوة تائهة لا تعرف الاتجاهات وهي تسير في منطقة مكشوفة لا شجر ولا بيوت فيها.
أوعزت المقاومة لمدفعية الهاون بالتعامل معها ما أدى الى سقوط العديد من أفرادها بين قتيل وجريح، وشوهد عناصرها يتقهقرون نحو الخلة ويحاولون الاحتماء من القذائف المنهمرة عليهم كالمطر بالبلان والصخور، تاركين القتلى والجرحى خلفهم، عدد محدود من الجنود هرب إلى الأمام ولجأ إلى بيت أهل الشهيد غسان علوية فتم التعامل معهم بالأسلحة المناسبة.
وفي مكان ليس ببعيد عن طريق البستان وصل أكثر من ثلاثين جندياً اسرائيلياً مرهقين من المشي والزحف والتخفي، وعلى مشارف البلدة لم يكن أمام هؤلاء البائسين سوى اللجوء إلى أول منزل يقع في طريقهم، وعندما دخلوا إلى منزل الشيخ للاستراحة من تعب تسلق المرتفعات من مستوطنة أفيفيم القريبة الى مارون الراس الشامخة في أعلى الجبل استقبلتهم مجموعة للمقاومة بالرشاشات، ودارت اشتباكات بين الغُرف ووجهاً لوجه، وقبل ان يفروا من المواجهة شاهد رجال المقاومة جنوداً من ورق.
لم تنته معركة مارون الراس فبينما كانت سيارة مدنية تقل نساء وأطفالا إلى بنت جبيل أطلقت وحدة اسرائيلية متخفية بأحد المنازل النار على السيارة ما أدى الى استشهاد سائقها فوراً، إلاّ أن صاروخاً موجهاً عن بعد للمقاومة رد على مصدر النيران ما أدى الى مقتل وجرح جميع جنود الوحدة الاسرائيلية، واعترفت اسرائيل لاحقاً بمقتل 4 من جنودها بينهم الرائد "بنيامين هيلمان"، وعلى الفور تدخلت المروحيات لسحب القتلى في معركة استمرت لساعات دون توقف، اصيبت قيادة الاحتلال فيها بالذعر وتصرفت بهستيريا لاعتقادها بأن معركة "البيت" تكاد تتكرر عند سفح الجبل مقابل مهنية بنت جبيل، فقد تم سحب القوة وتبين أن الرقيب أول "يهونتان فولسيوك" مفقود.
كانت المقاومة تسيطر على الأرض، وخلال 24 ساعة من المواجهات العنيفة دفعت اسرائيل بقوات ضخمة للحيلولة دون وصول عناصر المقاومة الى البيت الذي هدمته صواريخ ساغر فوق "فولسيوك"، وساهمت صور الاقمار الصناعية، وطائرات التجسس في تحديد مكان وجوده قبل نجاح احدى المروحيات في انتشاله، وفي تلك اللحظة دب الخلاف في اسرائيل، وصرخ القادة في وجه رئيس الاركان يطلبون منه انتشال الجيش من مارون وإعادته الى ما وراء الحدود مع لبنان.
بعد مواجهات مارون الراس ساد الاعتقاد في قيادة الجيش الاسرائيلي بأن الطريق الى بنت جبيل باتت مفتوحة، فقررت سلوك طريق البستان انطلاقاً من منطقة الحافور الى الاحياء الشمالية للبلدة المشرفة.
خلال ساعة من الزمن في اليوم التالي لسحب جثة "فولسيوك"، شقت دبابة واحدة طريقاً فرعياً كان عبارة عن مجرى للسيل في الشتاء، ووصلت الى ساحة البلدة دون اي مقاومة، كان الهدوء يسكن المنازل المخلعة أبوابها بعد موجة من الغارات الجوية العنيفة. تأكد طاقم الدبابة من عدم وجود اي قوة للمقاومة، فأوعز الى رتل كبير مؤلف من عشرين دبابة وناقلات جند وشاحنات تموين سلوك الطريق نفسها، وقبل أن يصل الرتل الى المسجد القديم، ومن المرتفعات المحيطة بمجرى السيل، انهمرت عليه القذائف المضادة للدروع، وما هي إلاّ لحظات حتى ترك الجنود الآليات وهربوا نحو منطقة الحافور، كان صراخهم يتردد في الوادي، أحد العجزة من آل فارس كان موجوداً في بيته على طريق البستان، لم يغادر هو وزوجته البلدة أبداً، أكّد أنه شاهد بعينه الجنود يفرون وأن واحداً منهم لجأ الى بيت الكلب واحتمى بداخله يبكي، وأضاف أن الدبابات المدمرة ظلّت متروكة في مكانها حتى يوم الهدنة قبل أن يسحبوها، وبعد الهدنة تقدمت الدبابات الاسرائيلية تحت حماية المروحيات، وعبروا الى ساحة المسجد الجديد في أول البلدة من جهة المهنية وانسحبوا من الطريق نفسها بعد إعلان وقف الاعمال الحربية.
بعد عشرة أيام على وقف الاعمال العدوانية، عاد أهل مارون الى منازلهم، شاهدوا بقايا آثار المعركة الحامية وبقايا آثار دماء قتلى وجرحى العدو، لكنه حتى اليوم لا يعرفوا أن المقاومة حاصرت قوة من وحدة ايغوز الاسرائيلية لساعات ثقيلة، وكادت أن تأسر خمسة منهم  لولا أن الله اختار منهم "جواد" والمجاهد الآخر الى جواره شهيدين.
قاسم متيرك
الانتقاد/العدد1224ـ 20 تموز/يوليو2007

https://archive.alahednews.com.lb/details.php?id=317099

بلدة مارون الراس